كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الفرع الحادي عشر: في حكمة الرمي:
اعلم أنه لا شك في أن حكمة الرمي في الجملة هي طاعة الله، فيما أمر به وذكره امتثال أمره على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، قال أبو داود في سننه حدثنا مسدد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا عبيد الله بن أبي زياد، عن القاسم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جُعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورَمْيُ الجِمار لإقامة ذكر الله» وقال النووي في شرح المهذب في حديث أبي داود هذا، وهذا الإسناد كله صحيح إلا عبيد الله فضعفه أكثرهم ضعفًا يسيرًا، ولم يضعف أبو داود هذا الحديث، فهو حسن عنده كما سبق. وروى الترمذي هذا الحديث من رواية عبيد الله هذا، وقال هو حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح، فلعله اعتضد برواية أخرى. انتهى محل الغرض منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: عبيد الله بن أبي زياد المذكور، هو القداح أبو الحصين المكي، وقد وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وحديثه هذا معناه صحيح بلا شك ويشهد لصحة معناه قوله تعالى: {واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] لأنه يدخل في الذكر المأمور به: رمي الجمار بدليل قوله بعده {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] الآية، وذلك يدل على أن الرمي شرع لإقامة ذكر الله، كما هو واضح، ولَكِن هذه الحكمة إجمالية، وقد روى البيهقي رحمه الله في سننه عن ابن عباس مرفوعًا قال: لما أتى إبراهيم خليل الله عليه السلام المناسك، عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له في الجمرة الثالثة، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الشيطان ترجمون وملة أبيكم تتبعون. انتهى بلفظه من السنن الكبرى للبيهقي، وقد روى هذا الحديث الحاكم في المستدرك مرفوعًا ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وعلى هذا الذي ذكره البيهقي، فذكر الله الذي شرع الرمي لإقامته، هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان، ورميه، وعدم الانقياد إليه، والله يقول: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبراهيم} [الممتحنة: 4] الآية، فكأن الرمي رمز وإشارة إلى عداوة الشيطان التي أمرنا الله بها في قوله: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوًّا} [فاطر: 6] وقله منكرًا على من والاه {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] الآية، ومعلوم أن الرجم بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة.
وقال النووي في شرح المهذب: فرع في الحكمة في الرمي، قال العلماء: أصل العبادة الطاعة، وكل عبادة فلها معنى قطعًا، لأن الشرع لا يأمر بالعبث، ثم معنى العبادة قد يفهمه المكلف، وقد لا يفهمه، فالحكمة في الصلاة، التواضع، والخضوع، وإظهار الافتقار إلى الله تعالى، والحكم في الصوم. كسر النفس وقمع الشهوات، والحكمة في الزكاة: مواساة المحتاج، وفي الحج: إقبال العبد أشعث أغبر من مسافة بعيدة إلى بيت فضله الله كإقبال العبد إلى مولاه ذليلًا.
ومن العبادات التي لا يفهم معناها: السعي والرمي، فكلف العبد بهما ليتم انقياده، فإن هذا النوع لاحظ للنفس فيه، ولا للعقل، ولا يحمل عليه إلا مجرد امتثال الأمرن وكمال الانقياد فهذه إشارة مختصرة تعرف بها الحكمة في جميع العبادات والله أعلم انتهى كلام النووي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ما ذكره الشيخ النووي رحمه الله: من أن حكمة السعي والرمي غير معقولة المعنى، غير صحيح فيما يظهر لي والله تعالى أعلم بل حكمة الرمي والسعي معقولة، وقد دلت بعض النصوص، على أنها معقولة، أما حكمة السعي: فقد جاء النص الصحيح ببيانها، وذلك هو ما رواه البخاري في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة ترك إبراهيم هاجر وإسماعيل في مكة، وأنه وضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء، وفي الحديث الصحيح المذكور «وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي، تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سمعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا ففعلت ذلك سبع مرات» قال ابن عباس: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «فذلك سعى الناس بينهما» الحديث. وهذا الطرف الذي ذكرنا من هذا الحديث سقناه بلفظ البخاري رحمه الله في صحيحه، وقول النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: «فذلك سعى الناس بينهما» فيه الإشارة الكافية إلى حكمة السعي بين الصفا والمروة، لأن هاجر سعت بينهما السعي المذكور، وهي في أشد حاجة، وأعظم فاقة إلى ربها، لأن ثمرة كبدها، وهو ولدها إسماعيل تنظره يتلوى من العطش في بلد لا ماء فيه، ولا أنيس، وهي أيضًا في جوع وعطش في غاية الاضطرار إلى خالقها جل وعلا، وهي من شدة الكرب تصعد على هذا الجبل فإذا لم تر شيئًا جرت إلى الثاني فصعدت عليه لترى أحدًا فأمر الناس بالسعي بين الصفا والمروة، ليشعروا بأن حاجتهم، وفقرهم إلى خالقهم ورازقهم كحاجة وفقر تلك المرأة في ذلك الوقت الضيق والكرب العظيم، إلى خالقها ورازقها وليتذكروا أن من كان يطيع الله كإبراهيم عليه، وعلى نبينا الصلاة والسلام، لا يضيعه، ولا يخيب دعاءه وهذه حكمة بالغة ظاهرة دل عليها حديث صحيح وقد قدمنا في حديث البيهقي المذكور حكمة الرمي أيضًا فتبين بذلك أن حكمة السعي والرمي معروفة ظاهرة خلافًا لما ذكره النووي.
والعلم عند الله تعالى.
المسألة الحادية عشرة في مواقيت الحج والعمرة:
اعلم أن الحج له ميقات زماني: وهو المذكور في قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُوماتٌ} [البقرة: 197] الآية، وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. وقيل: وذو الحجة مع الإجماع على فوات الحج بعدم الوقوف بعرفة قبل الفجر من ليلة النحر، وميقات مكاني، والمواقيت المكانية خمسة، أربعة منها بتوقيت النَّبي صلى الله عليه وسلم، بلا خلاف بين العلماء، لثبوت ذلك في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم، وواحد مختلف فيه هل وقته النبي صلى الله عليه وسلم، أو وقته عمر رضي الله عنه.
أما الأربعة المجمع على نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي: ذو الحليفة، وهو ميقات أهل المدينة، والجحفة وهي: ميقات أهل الشام وقرن المنازل وهو: ميقات أهل نجد، ويلملم وهي ميقات أهل اليمن أخرج توقيت هذه المواقيت الأربعة الشيخان في صحيحيهما، عن ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم إلا أن ابن عمر لم يسمع من النَّبي صلى الله عليه وسلم توقيت يلملم لأهل اليمن، بل سمعه من غيره صلى الله عليه وسلم، وهو مرسل صحابي، والاحتجاج بمراسيل الصحابة معروف، أما ابن عباس فقد سمع منه صلى الله عليه وسلم المواقيت الأربعة المذكورة.
فتحصل: أن ذا الحليفة، والجحفة، وقرن المنازل اتفق الشيخان على إخراج توقيتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث ابن عمر وابن عباس. وأن يلملم اتفقا أيضًا على إخراج توقيته عنهما معًا، إلا أن ابن عباس سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عمر سمعه من غيره، كما أوضحناه وذو الحليفة هو المسمى الآن بآبار علي، وقرن المنازل هو المسمى الآن: بالسيل. والجحفة خراب الآن، والناس يحرمون من رابغ، وهو قبلها بقليل وهو موضع معروف قديمًا وفيه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
ولما أجزنا الميل من بطن رابغ ** بدت نارها قمراء للمتنور

وأما الميقات الخامس الذي اختلف العلماء فيه، هل وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو وقته عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو: ذات عرق لأهل العراق، فقال بعض أهل العلم. توقيت ذات عرق، لأهل العراق من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: هو بتوقيت عمر رضي الله عنه، هو الذي قطع به الغزالي، والرافعي في شرح المسند، والنووي في شرح مسلم، وكذا وقع في المدونة لمالك وصحح الحنفية، والحنابلة، وجمهور الشافعية، والرافعي في الشرح الصغير، والنووي في شرح المهذب: أنه منصوص. انتهى محل الغرض من فتح الباري.
وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على ميقات ذات عرق: واختلف العلماء، هل صارت ميقاتهم بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم، أم باجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ وفي المسألة وجهان لأصحاب الشافعي أصحهما، وهو نص الشافعي رضي الله عنه في الأم: بتوقيت عمر رضي الله عنه.
انتهى محل الغرض منه. وقال النووي في شرح المهذب، وممن قال إنه مجتهد فيه من السلف، طاوس، وابن سيرين، وأبو الشعثاء جابر بن زيد وحكاه البيهقي وغيره عنهم، وممن قال من السلف إنه منصوص عليه: عطاء بن أبي رباح وغيره، وحكاه ابن الصباغ، عن أحمد، وأصحاب أبي حنيفة، وإذا عرفت اختلاف أهل العلم فيمن وقت ذات عرق لأهل العراق، فهذه تفاصيل أدلتهم.
أما الذين قالوا: إنه باجتهاد من عمر فاستدلوا بما رواه البخاري في صحيحه: حدثني علي بن مسلم، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّ لأهل نجد: قرنًا، وهو جَوْرٌ عَنْ طريقنا، وإنا إن أردنا قرنًا شق علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عرق اهـ منه. قالوا: فهذا الحديث الصحيح صريح في أن توقيت ذات عرق باجتهاد من عمر، وقد جاءت بذلك أيضًا آثار عن بعض السلف.
وأما الذين قالوا: إنه بتوقيت النَّبي صلى الله عليه وسلم، فاستدلوا بأحاديث منها: ما رواه مسلم في صحيحه، وحدثني محمد بن حاتم، وعبد بن حميد، كلاهما عن محمد بن بكر، قال عبد: أخبرنا محمد، أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، يسأل عن المهل؟ فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مهل أهل المدينة، من ذي الحليفة والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق: من ذات عرق، ومهل أهل نجد: من قرن. ومهل أهل اليمن: من يلملم. انتهى منه. وهذا الإنساد صحيح كما ترى إلا أنه ليس فيه الجزم برفع الحديث إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم. وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: فهذا إسناد صحيح، لَكِنه لم يجزم برفعه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم: فلا يثبت رفعه بمجرد هذا، ورواه ابن ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي بضم الخاء المعجمة بإسناده عن جابر مرفوعًا بغير شك، لَكِن الخوزي ضعيف، لا يحتج بروايته ورواه الإمام أحمد في مسنده، عن جابر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، بلا شك أيضًا، لَكِنه من رواية الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، وعن عائشة «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل العراق: ذات عرق» رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم بإسناد صحيح، لَكِن نقل ابن عدي: أن أحمد بن حنبل أنكر على أفلح بن حميد روايته هذه، وانفراده به مع أنه ثقة، وعن الحارث بن عمرو السهمي الصحابي رضي الله عنه: «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل العراق: ذات عرق» رواه أبو داود، وعن عطاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «أنه وقت لأهل المشرق: ذات عرق» رواه البيهقي، والشافعي بإسناد حسن، عن عطاء، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعطاء من كبار التابعين. وقد قدمنا في مقدمة هذا الشرح أن مذهب الشافعي الاحتجاج بمرسل كبار التابعين، إذا اعتضد بأحد أربعة أمور.
منها: أن يقول به بعض الصحابة، أو أكثر العلماء، وهذا قد اتفق على العمل به الصحابة، ومن بعدهم، قال البيهقي: هذا هو الصحيح من رواية عطاء أنه رواه مرسلًا، قال: وقد رواه الحجاج بن أرطاة، عن عطاء وغيره متصلًا، والحجاج ظاهر الضعف. انتهى كلام النووي. وقال صاحب نصب الراية: وأخرجه الدارقطني في سننه، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى الموصلي في أسانيدهم، عن حجاج، عن عطاء، عن جابر. وحجاج لا يحتج به، وذكر الحافظ في الفتح أن أحمد روى هذا الحديث من طريق ابن لهيعة من غير شك في الرفع.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي دليلًا أن ذات عرق، وقتها النَّبي صلى الله عليه وسلم لأهل العراق، والدليل على ذلك من وجهين:
أحدهما: أن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، في أحاديث منها: ما هو صحيح الإسناد، ومنها: ما في إسناده كلام، وبعضها يقوي بعضًا.
قال أبو داود رحمه الله في سننه: حدثنا هشام بن بهرام المدائني، ثنا المعافى بن عمران، عن أفلح يعني: ابن حميد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق» انتهى من سنن أبي داود، وهذا الإسناد صحيح كما ترى، لأن طبقته الأولى هشام بن بهرام المدائني أبو محمد، وهو ثقة، وطبقته الثانية: المعافى بن عمران الأزدي الفهمي أبو مسعود الموصلي، وهو ثقة عابد فقيه. وطبقته الثالثة: أفلح بن حميد بن نافع المدني أبو عبد الرحمن، ويقال له: ابن صعيراء، وهو ثقة، وطبقته الرابعة، والخامسة القاسم بن محمد أبي بكر، عن عمته عائشة رضي الله عنها، فهذا إسناد في غاية الصحة كما ترى.
وقال النسائي في سننه: حدثنا محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، قال: حدثنا أبو هاشم محمد بن علي عن المعافى، عن أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة قالت «وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة: ذا الحُليفة، ولأهل الشام ومصر: الجحفة، ولأهل العراق: ذات عرق، ولأهل نجد: قرنًا، ولأهل اليمن: يلملم» وهذا إسناد صحيح أيضًا، لأن طبقته الأولى محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وهو ثقة حافظ، وطبقته الثانية هي أبو هاشم محمد بن علي الأسدي، وهو ثقة عابد وباقي الإسناد، هو ما تقدم الآن في إسناد أبي داود، وكلهم ثقات كما أوضحناه الآن، فهذا الإسناد لا شك في صحته ومتنه فيه التصريح بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق.
واعلم أن تضعيف من ضعف هذا الحديث بأن الإمام أحمد رحمه الله، أنكر على أفلح بن حميد ذكره في هذا الحديث لذات عرق، وأنه انفرد بذلك غير مسلم لأن أفلح بن حيمد ثقة وزيادة العدل مقبولة، ولا يضره انفراد المعافى بن عمران أيضًا لأنه ثقة، وكم من حديث صحيح غيريب انفرد به ثقة عن ثقة، كما هو معلوم في الأصول وعلم الحديث. وقال الشيخ الذهبي رحمه الله في ميزان الاعتدال في نقد الرجال في ترجمة أفلح بن حميد المذكور: وثقه ابن معين، وأبو حاتم. وقال ابن صاعد: كان أحمد ينكر على أفلح بن حميد قوله: ولأهل العراق ذات عرق، وقال ابن عدي في الكامل: هو عندي صالح، وهذا الحديث ينفرد به المعافى بن عمران، عن أفلح، عن القاسم عن عائشة.
قلت: هو صحيح غريب. انتهى كلام الذهبي. وتراه صرح بأن هذا الحديث صحيح غريب، مع أن هذا الحديث في توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق، لأهل العراق له شواهد متعددة.
منها: حديث جابر في صحيح مسلم، وإن كان لم يجزم فيه بالرفع، لأن قوله: أحسبه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ظن من أبي الزبير أن جابرًا رفع الحديث، وهذا الظن يقوي الروايات، التي فيها الجزم بالرفع.
ومنها: ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عتبة بن عبد الملك السهمي، حدثني زرارة بن كريم: أن الحارث بن عمرو السهمي، حدثه: «قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى أو بعرفات، وقد أطاف به الناس قال: فتجيء الإعراب، فإذا رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك، قال: ووقت ذات عرق: لأهل العراق». انتهى منه. وهذا الإسناد لا يقل عن درجة الحسن، لأن طبقته الأولى: عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر المقعد التميمي المِنْقَري، وهو ثقة ثبت رمِيَ بالقدر، وطبقته الثانية: عبد الوارث وهو ابن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم أبو عبيدة التنوري، وهو ثقة ثبت رمِيَ بالقدر ولم يثبت عنه، وطبقته الثالثة: عتبة بن عبد الملك السهمي، وهو بصري. ذكره ابن حبان في الثقات، وطبقته الرابعة: زرارة بن كريم بن الحارث بن عمرو السهمي، وهو له رؤية، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وطبقته الخامسة: الحارث بن عمرو السهمي الباهلي رضي الله عنه وهو صحابي، فهذا الإسناد لا يقل عن درجة الحسن، وهو صالح لأن يعتضد به حديث عائشة المتقدم عند أبي داود، والنسائي الذي قدمنا: أن إسناده صحيح، وقد سكت أبو داود على هذا الحديث.